كتب تقدم الخطيب أن اعتماد القاهرة المتزايد على الغاز الإسرائيلي يحوّل مفاتيح الإنتاج الصناعي المصري إلى يد خصم تاريخي، ما يهدد سيادة مصر الاقتصادية والأمنية في أي مواجهة مستقبلية.
أوضح مقاله المنشور على موقع ميدل إيست آي أن جذور القضية تعود إلى منتصف التسعينيات، حين بدأت محادثات سرّية حول تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل عبر أنابيب بحرية، في وقت كان فيه اتفاق السلام بين البلدين ما يزال مرفوضاً شعبياً، ما جعل الخطوة مقامرة سياسية. ورغم الرفض الداخلي، دفعت المصالح الاقتصادية والتنسيق الأمني بين أجهزة الاستخبارات نحو توقيع اتفاق 2005 لتزويد إسرائيل بالغاز بأسعار تفضيلية أقل بكثير من الأسعار العالمية، وهو ما فجّر لاحقاً فضيحة كبرى.
بعد ثورة 2011، تعرض خط الغاز في سيناء لهجمات متكررة، فتوقفت الإمدادات. رفعت إسرائيل قضايا تحكيم دولي وربحت تعويضات ضخمة بلغت 1.7 مليار دولار لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، كما ربحت شركة إسبانية تعويضاً بنحو 2 مليار دولار بعد توقف إمداداتها من مصنع دمياط. هذا الضغط المالي والدبلوماسي أجبر القاهرة على البحث عن تسوية شاملة، انتهت بعكس المعادلة: مصر التي كانت مصدّراً للغاز تحولت إلى مستورد من إسرائيل.
في 2018، أعلنت شركة ديليك الإسرائيلية عن صفقة بقيمة 15 مليار دولار على عشر سنوات لتصدير الغاز إلى مصر. رحّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاتفاق واعتبره "يوم عيد" لإسرائيل، فيما قلل رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي من الانتقادات، زاعماً أن الأمر شأن تجاري للقطاع الخاص، رغم أن كل المؤشرات أكدت دور جهاز المخابرات العامة في صياغة الصفقة، خاصة بعد تعديلات 2022 التي خوّلته إنشاء شركات والمشاركة في ملكيتها.
يكشف الكاتب أن السؤال الأهم هو: لماذا إسرائيل تحديداً؟ الإجابة تكمن في السياسة أكثر من الاقتصاد. فالمشروع الجديد، الذي توسّع مؤخراً بصفقة قياسية بقيمة 35 مليار دولار لزيادة الواردات ثلاثة أضعاف، يدخل في إطار بناء محور شرق متوسطي جديد يجعل إسرائيل مورداً أساسياً للطاقة وفاعلاً سياسياً محورياً.
اعتمد السيسي على هذا الدور ليقدّم نفسه للغرب وسيطاً "معتدلاً" مع إسرائيل، فيكسب دعماً سياسياً من واشنطن وتل أبيب بغض النظر عن سجل حقوق الإنسان في مصر. وكان للضغط الأميركي دوراً حاسماً في تأسيس "منتدى غاز شرق المتوسط" بالقاهرة عام 2019، بمشاركة مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، مع استبعاد تركيا وروسيا. الهدف لم يكن تعاوناً اقتصادياً بقدر ما كان مشروعاً استراتيجياً لإعادة هندسة خريطة الطاقة في شرق المتوسط، وجعل مصر معبراً لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا لتقليل اعتمادها على روسيا.
لكن هذه التبعية تحمل خطراً جوهرياً: في أي مواجهة مستقبلية، يستطيع القرار الإسرائيلي وحده أن يوقف الإمدادات، ما يسبب انقطاع الكهرباء وشلّ المصانع وحتى الصناعات العسكرية المصرية. هكذا يصبح أمن مصر الصناعي والدفاعي مرهوناً بقرار طرف عُرف تاريخياً بعداوته.
حتى الاكتشاف الضخم لحقل ظهر عام 2015 لم يغيّر الصورة بالكامل، إذ تمتلك الدولة المصرية عبر شركة "إيجاس" نحو 40 بالمئة فقط من الإنتاج، بينما تملك البقية شركات أجنبية كإيني الإيطالية وبي بي البريطانية وروسنفت الروسية ومبادلة الإماراتية، وهي شركات حرة في بيع حصتها للحكومة أو في السوق المفتوحة. وبذلك يصبح ادعاء "الاكتفاء الذاتي" وهماً محاسبياً أكثر منه حقيقة اقتصادية.
يلفت الكاتب أيضاً إلى أن جهاز المخابرات العامة أصبح لاعباً اقتصادياً مباشراً بفضل صلاحياته الجديدة، ما جعله طرفاً أساسياً في قطاع الطاقة داخلياً وإقليمياً. وقد ساهم في صياغة معادلات الغاز الإقليمي بما يخدم أهدافاً سياسية تتجاوز الاحتياجات المصرية.
ويتوسع الخطيب في شرح الأبعاد الأمنية، موضحاً أن الغاز الإسرائيلي يغذّي محطات الكهرباء والمصانع المصرية، بما فيها مصانع إنتاج المعدات العسكرية. بذلك يضع النظام مفتاح قدرته الدفاعية في يد دولة قد تستخدمه سلاحاً سياسياً أو عسكرياً في المستقبل.
الانعكاسات لا تقف عند مصر، بل تشمل غزة أيضاً. فقد أعيد طرح مشروع تطوير حقل غزة مارين المكتشف عام 1999، ضمن صفقة لإعمار القطاع بإشراف إسرائيلي مباشر. وفي 2021 وقعت مصر والسلطة الفلسطينية مذكرة لتطوير الحقل وبيع معظم إنتاجه لمصر، عبر شركات مقربة من جهاز المخابرات. النتيجة أن اقتصاد غزة نفسه بات مرتبطاً بترتيبات يفرضها الاحتلال عبر القاهرة.
تزامن كل ذلك مع تحولات الطاقة العالمية بعد حرب أوكرانيا والعقوبات على روسيا، ما جعل شرق المتوسط خياراً بديلاً جذاباً لأوروبا. لكن جعل إسرائيل محوراً لهذا النظام لم يكن ممكناً إلا بقبول مصر ودول عربية أخرى.
هكذا تحولت صفقة 2018 من اتفاق تجاري إلى معادلة سياسية جديدة: بلد كان يملك فائض طاقته ويصدره، أصبح يستورد من جار عدو سابق يحتل أراضٍ عربية. وتسوّق الحكومة المصرية هذه الترتيبات كنجاحات استراتيجية، بينما تكشف الحقائق أنها أقرب إلى التنازل عن أوراق القوة الوطنية مقابل أدوار إقليمية مرسومة من الخارج.
في النهاية، لا تدور القضية حول الغاز فحسب، بل حول السيادة. الموارد الطبيعية التي يُفترض أن تمنح الدول قوة، قد تصبح أداة إخضاع إذا وُضعت في إطار تحالفات غير متكافئة. مصر التي لطالما قدّمت نفسها قلب العالم العربي وضامن أمنه، باتت تشارك قرار تشغيل مصانعها ودفاعاتها مع طرف خارجي، في انعكاس واضح لتحول أعمق في النظام الإقليمي، ولتحوّل الطاقة من سلعة اقتصادية إلى سلاح جيوسياسي.
https://www.middleeasteye.net/opinion/how-egypt-reliance-israel-gas-could-blow-up-face